فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ}.
لقد اختلف القوم في عدد أهل الكهف، منهم مَنْ قال: ثلاثة رابعهم كلبهم. ومنهم مَنْ قال: خمسة سادسهم كلبهم، وعلَّق الحق سبحانه على هذا القول بأنه {رَجْمًا بالغيب}؛ لأنه قَوْل بلا عِلْم، مما يدلُّنا على خطئه ومخالفته للواقع. ومنهم مَنْ قال: سبعة وثامنهم كلبهم، ولم يعلق القرآن على هذا الرأي مما يدُّل على أنه الأقرب للصواب.
ثم يأتي القول الفَصْل في هذه المسألة: {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} [الكهف: 22] فلم يُبيّن لنا الحق سبحانه عددهم الحقيقي، وأمرنا أن نترك هذا لعلمه سبحانه، ولا نبحث في أمر لا طائل منه، ولا فائدة من ورائه، فالمهم أنْ يثبت أَصْل القصة وهو: الفتية الأشدّاء في دينهم والذين فَرُّوا به وضَحَّوْا في سبيله حتى لا يفتنهم أهل الكفر والطغيان، وقد لجأوا إلى الكهف ففعل الله بهم ما فعل، وجعلهم آيةً وعبرةً ومثَلًا وقدْوة.
أما فرعيات القصة فهي أمور ثانوية لا تُقدّم ولا تُؤخّر؛ لذلك قال تعالى بعدها: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف: 22] أي: لا تجادل في أمرهم.
ثم يأتي فضول الناس ليسألوا عن زمن القصة ومكانها، وعن أشخاصها وعددهم وأسمائهم، حتى كلبهم تكلموا في اسمه. وهذه كلُّها أمور ثانوية لا تنفع في القصة ولا تضرُّ، ويجب هنا أن نعلم أن القَصَص القرآني حين يبهم أبطاله يبهمهم لحكمة، فلو تأملتَ إبهام الأشخاص في قصة أهل الكهف لوجدته عَيْن البيان لأصل القصة؛ لأن القرآن لو أخبرنا مثلًا عن مكان هؤلاء الفتية لقال البعض: إن هذا الحدث من الفتية خاص بهذا المكان؛ لأنه كان فيه قدر من حرية الرأي.
ولو حدد زمانهم لَقال البعض: لقد حدث ما حدث منهم؛ لأن زمانهم كان من الممكن أن يتأتّى فيه مثل هذا العمل، ولو حدد الأشخاص وعيَّنهم لقالوا: هؤلاء أشخاص لا يتكررون مرة أخرى.
لذلك أبهمهم الله لتتحقّق الفائدة المرجوّة من القصة، أبهمهم زمانًا، أبهمهم مكانًا، وأبهمهم عددًا، وأبهمهم أشخاصًا ليشيع خبرهم بهذا الوصف في الدنيا كلها لا يرتبط بزمان ولا مكان ولا أشخاص، فحمل راية الحق، والقيام به أمر واجب وشائع في الزمان والمكان والأشخاص، وهذا هو عَيْن البيان للقصة، وهذا هو المغزى من هذه القصة.
وانظر إلى قوله تبارك وتعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [غافر: 28].
هكذا {رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ} دون أن يذكر عنه شيئًا، فالمهم أن الرجولة في الإيمان، أيًّا كان هذا المؤمن في أيّ زمان، وفي أيّ مكان، وبأيّ اسم، وبأيّ صفة.
كذلك في قوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ} [التحريم: 10] ولم يذكر عنهما شيئًا، ولم يُشخِّصهما؛ لأن التشخيص هنا لا يفيد، فالمهم والمراد من الآية بيانُ أن الهداية بيد الله وحده، وأن النبي المرسَل من الله لم يستطع هداية زوجته وأقرب الناس إليه، وأن للمرأة حريةً عَقَيدة مُطْلقة.
وكذلك في قوله: {وَضَرَبَ الله مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ} [التحريم: 11] ولم يذكر لنا مَنْ هي، ولم يُشخِّصها؛ لأن تعيُّنها لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر، المهم أن نعلم أن فرعونَ الذي ادَّعى الألوهية وبكل جبروته وسلطانه لم يستطع أنْ يحمل امرأته على الإيمان به.
إذن: العقيدة والإيمان أمر شخصيّ قلبي، لا يُجبر عليه الإنسان، وها هي امرأة فرعون تؤمن بالله وتقول: {رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} [التحريم: 11].
أما في قصة مريم، فيقول تعالى: {وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ} [التحريم: 12] فشخَّصها باسمها، بل واسم أبيها، لماذا؟ قالوا: لأن الحدث الذي ستتعرَّض له حَدَثٌ فريد وشيء خاصٌّ بها لن يتكرر في غيرها؛ لذلك عيَّنها الله وعرَّفها، أما الأمر العام الذي يتكرر، فمن الحكمة أنْ يظلَّ مُبْهمًا غير مرتبط بشخص أو زمان أو مكان، كما في قصة أهل الكهف، فقد أبهمها الحق سبحانه لتكون مثالًا وقُدْوة لكل مؤمن في كل زمان ومكان.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَدًا}.
وتتجلى في هذه الآية رحمة الله بالمحبوب محمد صلى الله عليه وسلم فلم يُرِدْ سبحانه وتعالى أن يصدم رسوله بمسألة المخالفة هذه، بل أعطاه ما أراد، وأجابه إلى ما طَلب من مسألة أهل الكهف، ثم في النهاية ذكَّره بهذه المخالفة في أسلوب وَعْظ رقيق: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} [الكهف: 23-24].
وقد سبق أنْ ذكرنا أنه صلى الله عليه وسلم حينما سأله القوم عن هذه القصة قال: سأجيبكم غدًا ولم يَقُلْ: إن شاء الله. فلم يعاجله الله تعالى بالعتاب، بل قضى له حاجته، ثم لفتَ نظره إلى أمر هذه المخالفة، وهذا من رحمة الله برسوله صلى الله عليه وسلم.
كما خاطبه بقوله: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43].
فقدَّم العفو أولًا وقرَّره؛ لأن هذه المسألة منتهية ومعلومة للرسول، ثم عاتبه بعد ذلك. كما لو طلب منك شخص عَوْنًا أو مساعدة، وقد سبق أنْ أساء إليك، فمن اللياقة أَلاَّ تَصدِمه بأمر الإساءة، وتُذكّره به أولًا، بل اقْضِ له حاجته، ثم ذكّره بما فعل.
والحق سبحانه يقول: {إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}.
أي: على فَرْض أنك نسيت المشيئة ساعة البَدْء في الفعل، فعليك أن تعيدها ثانية لتتدارك ما حدث منك من نسيان في بداية الأمر.
وقوله تعالى: {وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدًا} [الكهف: 24] أي: يهديني ويعينني، فلا أنسى أبدًا، وأن يجعل ذِكْره لازمة من لوازمي في كل عمل من أعمالي فلا أبدأ عملًا إلا بقوْل: إنْ شاء الله. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] يسأل عن اختصاص الثمانية بالواو؟ ولِمَ لم ترد الجملة من قوله تعالى: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} صفة للنكرة قبلها كما تقدم فيما قبل؟ ولم عدل إلى العطف؟
وأظهر جواب عن هذا-والله أعلم- أن هذا الإخبار العليّ معرف باختلاف اليهود في فتيو الكهف، وإنهم أو أكثرهم لم يتحققوا عددهم، فحكى سبحانه قولهم، وانجر بإيماء وإشارة تقرير الصحيح من قولهم، مع أنهم أعني أكثر يهود غير عالمين بذلك ولا مرجحين، فأتى بالجملة الأولى وهي قوله: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ} أعني المحكية بعد القول، إذ التقدير: هم ثلاثة، ثم سيقت الجملة من قوله: {رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} صفة للثلاثة، والجملة تقع صفة للنكرة وحالًا من المعرفة، ثم قال: {وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ}، فسادسهم صفة للنكرة كالمتقدمة، ثم أتبع هذا الكلام من اختلافهم بقوله: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} فأفهم- والله أعلم- أن هذا ليس من نمط ما تقدم، فكأن {قد} قيل: ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم وأن هذا ليس داخلًا تحت ما تقدم من أنه رجم بالغيب وأن الوصف بتلك الحال إنما يرجع لما قبله من قولهم: ثلاثة رابعهم كلبهم وخمسة سادسهم كلبهم كلام ابن عباس، رضي الله عنه، ومن تبعه من المفسرين.
قلت حكى سيبويه أن العرب ستعمل الحذف كثيرًا في كلامهم، ومنه قولهم فيما حكى سيبويه، رحمه الله، اللهم ضبعًا وذيبًا، وإذا كان القائل يدعو بذلك على غنم رجل قال: وإذا سألتهم ما يعنون؟ قالوا: اللهم اجمع فيها ضبعًا وذيبًا، وحكى عن أبي الخطاب أنه سمع بعض العرب وقيل له: لم أفسدتم مكانكم فقال: الصبيان بأبي، كأنه حذر أن يلام فقال: لم الصبيان. وقيل لبعض العرب: أما بمكان كذا وكذا وجذ فقال بلى وحاذا أي فاعرف بها وجاذا، وهو المكان الممسك للماء، ويحذفون الجملة الاسمية برأسها إذا دل الدليل عليها كما يفعلون في الجملة الفعلية، قال تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] أي فعدتهن ثلاثة أشهر، والحذف في كلامهم كثير إذا كان في الكلام ما يدل على المحذوف، فظهر لي هنا والله أعلم أن الواو في قوله: {وَثَامِنُهُمْ} إنما عطف بها على جملة اسمية محذوفة كما قدمنا، ومن المفسرين من جعل هذه الواو داخلة على الجملة الواقعة صفة للنكرة، كما تدخل على الواقعة حالًا عن المعرفة في نحو جاءني زيد ومعه أخوه، ومررت بزيد وفي يده سيف، ومنه قوله عز وجل: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [الحجر: 4]، وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، وهذه الواو وهي التي آذنت بأن الذين قالوا: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} قالوا عن ثبات علم وطمأنينة نفس، ولم يرجموا بالظن كما فعل غيرهم، والدليل عليه أن الله سبحانه أتبع القولين الأولين بقوله: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ}، وأتبع القول الثالث بقوله: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف: 22] وقال ابن عباس، رضي الله عنه: حين وقعت الواو انقطعت العدة. أي لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها، وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والثابت، وقيل: {إِلَّا قَلِيلٌ} أي من أهل الكتاب، والضمير في {سيقولون} على هذا لأهل الكتاب خاصة، أي سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وكذا، ولا علم لهم بذلك {إلا} في قليل منهم، وأكثرهم على ظن وتخمين. انتهى ما قاله الزمخشري وحكاه، وقد حصل منه أن قليلًا من أهل الكتاب قد كان يعلم عددهم وهذا لا ينافره المأخذ المتقدم. وحكى المفسرون أن ابن عباس، رضي الله عنه، كان يقول في قوله: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} أنا من ذلك القليل، وهذا القدر كاف، والله أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمَا بَالغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}.
أخبر أنَّ علومَ الناسِ متقاصرةٌ عن عددهم؛ فالأحوالُ التي لا يطلع عليها إلا الله في أسرارهم وقلوبهم.. متى يكون للخَلْق عليها إشرافٌ؟
أشكل عليهم عددهم، وعددهم يُعْلَم بالضرورة، وهم لا يُدْرَكُون بالمشاهدة.
ويقال سَعِدَ الكلبُ حيث كَرَّرَ الحقُّ- سبحانه- ذِكْرَهم وذكَرَ الكلبَ معهم على وجه التكرار، ولمَّا ذَكَرَهم عَدَّ الكلب في جملتهم.
قوله جلّ ذكره: {قُل رَّبِىَ أَعَلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعَلَمُهُمْ إلاَّ قَلِيلٌ}.
لما كانوا من أوليائه فلا يعلمهم إلا خواص عباده، ومَنْ كان قريبًا في الحال منهم؛ فهم في كتم الغَيْرَة وإيواء الستر لا يَطَّلعُ الأجانبُ عليهم؛ ولا يعلمهم إلا قليلٌ؛ لأنَّ الحق- سبحانه يستر أولياءه عن الأجانب، فلا يعلمهم إلا أهل الحقيقة، فالأجانب لا يعرفون الأقارب، ولا تشكل أحوال الأقارب على الأقارب. كذلك قال شيوخ هذه الطائفة: الصوفية أهل بيتٍ واحدٍ لا يدخل فيهم غيرهم.
قوله جلّ ذكره: {وَلاَ تَسْتفِتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا}.
كما لا يعرفهم من كان بمعزلٍ عن حالتهم، ولا يهتدي إلى أحكامهم من لا يعرفهم.. فلا يصحُّ استفتاءُ مَنْ غاب علمهم عنه في حالهم. ومَنْ لم يكن قلبُه محلًا لمحبة الأحباب لا يكون لسانُه مقرًا لذكرهم.
قوله جلّ ذكره: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ}.
إذا كانت الحوادث صادرةً عن مشيئة الله فَمَنْ عَرَفَ الله لم يَعُدّ من نفسه ما علم أنه لا يتم إلا بالله.
ويقال مَنْ عَرَفَ الله سقط اختيارُه عند مشيتئته، واندرجت أحكامه في شهوده لحكم الله.
ويقال المؤمن يعزم على اعتناق الطاعةُ في مستقبله بقلبه، لكنه يتبرأ عن حَوْلِهِ وقُوََّتِهِ بسِرِّه، والشرعُ يستدعي منه نهوض قلبه في طاعته، والحقُّ يقف سِرَّه عند شهود ما منه لمحبوبه تحت جريان قسمته.
قوله جلّ ذكره: {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُل عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّى لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا}.
إنْ طَرأَتْ عليك طوارقُ النسيان- لا يتعهدك- فجرِّدْ بذكرك قَصْدَكَ عن أوطان غفلتك.
ويقال: {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}: في الحقيقة نَفْسُك تمنعك من استغراقك في شهود ذكرك.
ويقال واذكر ربك إذا نسيت ذكرك لربِّك: فإن العبدَ إذا كان ملاحظًا لذكره كان ذلك آفة في ذكره.
ويقال واذكر ربك إذا نسيت حَظَّك منه.
ويقال واذكر ربَّك إذا نسيت غيرَ ربَّك. اهـ.

.قال صاحب روح البيان:

اعلم أن ابن عباس رضي الله عنهما جوز الاستثناء المنفصل بالآية المذكورة وعامة الفقهاء على خلافه إذ لو صح ذلك لما تقرر إقرار ولا طلاق ولا عتاق ولم يعلم صدق ولا كذب في الإخبار عن الأمور المستقبلة. قال القرطبي في تأويل الآية: هذا في تدارك التبرّي والتخلص منا لإثم وإما الاستثناء المغير للحكم فلا يكون إلا متصلًا انتهى.
قال في مناقب الإمام الأعظم روي أن محمد بن إسحاق صاحب المغازي كان يحسد أبا حنيفة لما روي من تفضيل المنصور أبي جعفر أبا حنيفة على سائر العلماء فقال محمد بن إسحاق عند أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور لأبي حنيفة ما تقول في رجل حلف وسكت ثم قال: إن شاء الله بعد ما فرغ من يمينه وسكت فقال أبو حنيفة: لا يعمل الاستثناء لأنه مقطوع وإنما ينفعه إذا كان متصلًا فقال محمد بن إسحاق: كيف لا ينفعه وقد قال جد أمير المؤمنين وهو عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- أنه يعمل الاستثناء وإن كان بعد سنة لقوله تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} فقال أمير المؤمنين: أهكذا قول جدي فقال: نعم فقال المنصور على وجه الغضب لأبي حنيفة: أتخالف جدي يا أبا حنيفة؟ فقال أبو حنيفة لقول ابن عباس تأويل يخرج على الصحة ثم قال لأمير المؤمنين: إن هذا وأصحابه لا يرونك أهلًا للخلافة لأنهم يبايعونك ثم يخرجون فيقولون: إن شاء الله ويخرجون من بيعتك ولا يكون في عنقهم حنث فقال أمير المؤمنين لأعوانه: خذوا هذا يعني محمد بن إسحاق فأخذوه وجعلوا رداءه في عنقه وحبسوه. اهـ.